مراد الصغير ..نهاية غامضة لطبيب عسكري شجاع
أحمد الجَـــلالي
تماما مثلما خيم لحن أغنية “جيفارا مات” للرائعين نجم وإمام، قبل عقود، على حديث الناس، في الجوامع والصوامع وبالقهاوي وعلبارات، يغزو الانترنت هذه الساعات ما يشبه “تريند” يقول: مات الطبيب العسكري، ويتساءل كيف مات؟
قبل سنوات، تعرفت كغيري من المتابعين على خروج ذلك الطبيب الأنيق ببذلته العسكرية إلى عالم اليوتيوب والتحدث إلى الناس عن أفكاره وطموحاته وأحلامه بمغرب جديد، كما تحدث علنا بنبرة نقدية حادة عن أشخاص وأوضاع.
لم يكن الفقيد، منذ أطل على الجمهور المغربي، من السويد وفرنسا وإندونيسيا في رحلات ابن بطوطية، لم يكن يتلعثم في التعبير على آرائه ولم يكن مجاملا إلا لماما، هو المسلح بالمعرفة الطبية المخضبة بتجربة في الحياة وفي سلك العسكرية: طبيبا برتبة عقيد.
كانت بداياته مدهشة لغة وخطابا ومنطقا وجرأة. وتساءل كثيرون عن سر ذلك الظهور العلني لشخصية محسوبة على الجيش. ونال منه آخرون رجما بالغيب. وكان رحمه الله كلما كثرت فيديوهاته زاد جمهوره وكثر خصومه.
لم يكن خافيا أن الرجل مغربي وطني محافظ تجاه الثوابت التي تربى عليها، ولم يكن سرا هجومه على من كان يسميهم خونة دون أن يرف له جفن. وبلا شك حين تكون ذا كفاءة في مجالك مسلحا بالتجربة والعلم والثقة في النفس مع القدرة على التعبير فأبشر بكثرة الأعداء والمطبات يا صديقي.
كنت أتساءل مع نفسي: ماذا يريد هذا الطبيب؟ والجواب الذي توصلت إليه عبر تتبعي لكثير من خرجاته أن مرادا كان يريد مغرب آخر يكون له ولأمثاله فيه موطئ قدم ونصيب وافر من الحرية في العمل والتعبير والمشاركة والإبداع.
لكن الوضوح الذي صار في ذهني حول ما كان يريد مراد لا يعني أن الرجل صار مكشوفا تماما، إذ أن لكل شخص بحجمه مساحات ظل يبقيها لنفسه حصريا وليس مطالبا بكشفها للعموم.
لقد كان المرحوم يعيش منغصات وتوترات وصراعات نفسية ناجمة عن واقع شخصي وموضوعي. مثلا، ليس عاديا ألا يجد طبيب بتجربته المهنية الصلبة فرصة عمل في مدينته طنجة وبوطنه المغرب. ليس عاديا أبدا بعد مسار مهني محترم أن يعيش في عزلة اجتماعية وهو في عقده السادس. وهل طبيعي بنظركم ألا يكون لعقيد طبيب علاقات بشخصيات من جيله ومن دفعته يمكن أن يساعدوه؟
وكما انطلق ابن بطوطة من طنجة ليجوب العالم في رحلة أسطورية خلدها التاريخ، خرج مراد من مدينة البوغاز وطاف عدة قارات مسلحا بعلمه وخبراته الطبية وحسة النقدي الحاد ودقته في الملاحظة والمقارنة والاستنتاج.
خبر الطبيب العسكري ممارسة الطب في بلدان عدة وعاش الاحتكاك مع أجناس كثيرة. ولكن “النوع البشري” الذي تعامل معه مراد على قاعدة الندية كان الفرنسيين.
كشف مراد للمشاهدين خبايا النفسية الفرنسية وميلها لاحتقار العرب والمسلمين و الافارقة عموما. لقد عرى الضعف الفرنسي المغلف بالعنجهية الاستعمارية الفارغة. وتخطى مجال الطب في معالجة الشخصية الفرنسية إلى أدوار دولتهم التخريبية في العالم عموما وبالمغرب خصوصا وحذر من مكائدهم اليوم وفضح مخططاتهم غدا.
وكانت فترة الحجر الصحي وكوفيد فرصة زمنية لانتشار ظاهرة ومقاربات “الطبيب العسكري”. هنا اتسعت دائرة الدور التنويري لمراد الصغير ومع هذا الانتشار لامس خبايا المجتمع الدولي من منطلق منظمة الصحة العالمية وأهدافها التدميرية ومخططاتها المرعبة، متكئا على درايته كطبيب عالم بخبايا صناعة الأدوية والاجندات المرافقة لها.
لم يكن مراد يعطي دروسا في الطب ولا يوزع نصائح لمقاومة بعض الأمراض ولكن كان يقدم قراءات تربط الطبي بالسياسي والعلمي بالثقافي والاستهلاكي بالإعلامي، في عملية ربط للنقط المبعثرة بهدف رسم الصورة الكاملة الواضحة لوضع وطني وإقليمي ودولي مشوه وملتبس.أظن أنه توفق في ذلك إلى حد معتبر.
كان جمهور مراد الذي اختاره بعناية يتشكل من طائفتين: الطلبة و الناس “غير العاديين” أي الفئة التي تتأمل ولا تسير مع القطيع حيث سار ولا تنعق مع كل ناعق.
وتماما كما ظلت حياة ونشاطات الراحل مراد الصغير محفوفة بغير قليل من الغموض فإن رحيله عن دنيانا الفانية كان بنفس القدر من الغموض والاستفهام و الالتباس.
يمكن إجمال أهم التساؤلات المشروعة التي أثيرت إلى حدود الساعة حول وفاة الطبيب العسكري كما يلي:
ــ أين كان مختفيا قبل أن يأتي للمستشفى؟
ــ اين هاتفه وأوراق هويته؟
ــ هل تعرض لاعتداء جسدي ومن قبل من؟
ــ لماذا لم يتعرف عليه طاقم المستشفى ورجال الأمن رغم أنه وجه مألوف جدا؟
ــ من مسح معظم فيديوهاته على قناته في اليوتيوب؟
ــ من المستفيد من رحيل مراد الصغير؟
تبقى الإجابات عن هذه الألغاز رهينة بعامل الزمن وتحقيقات الاستخبارات المغربية لإماطة اللثام عنها.
لا أزعم التوفر حاليا على أية معطيات استثنائية في هذه النازلة ولكن سأحاول معالجة بعض ما أثير حول أسباب وفاة الفقيد، من زاوية تحليلي، وهنا أكررها فأنا أحلل ولا أقدم معلومات.
تابعت اليوم جل ما قيل عن الوفاة الغامضة للطبيب مراد الصغير ولم يكن صعبا علي رصد خطاب المؤامرة والاتهام المباشر أو الضمني لجهة مغربية بتصفية مراد الصغير.
والغريب الذي لا أستطيع هضمه هو من أين يأتي بعضهم بكل هذه الجسارة والوقاحة والرغبة الجامحة في استغباء عقول الناس ليرمي مسؤولين بالغيب وبكل يقينية وكأنهم أطباء تشريح أو خبراء في علم الجريمة هم المكلفون بقضية الضحية.
بكل وضوح، إن كان لي ولابد أن أشك في جهة ما قد تكون صفت المرحوم جسديا فهي قطعا جهة خارجية وليست داخلية.
لماذا؟
لأن مراد الصغير ليس مصدر خطر ولا يملك ما يمكنه من تهديد دولة كالمغرب.
لأن الطبيب وطني ملكي ويتباهى بمغربيته وانتمائه لجيش يسمى القوات المسلحة الملكية.
لأن الرجل غادر المغرب ثم عاد فغادر ثم رجع ولم يتعرض حتى لمجرد استنطاق، ولو كان ذلك حصل لكان قد بث بشأنه فيديوهات طويلة.
لأن مراد الصغير حتى حين استدعي للاستماع إليه من قبل الشرطة القضائية سواء في وجدة أو طنجة أو البيضاء على خلفية شكايات نتمنى من النيابة العامة أن تتواصل بشأن ملابساتها مع الرأي العام، حتى خلال سفره الماراطوني ذاك شرقا وغربا لم يتعرض لسوء ولا اعتقال.
وبدل اتهام السلطات بلا دليل يجدر بصناع بعض المحتويات الإصرار على مطالبة السلطات المعنية بتعميق البحث والتواصل مع الرأي العام لتظهر الحقيقة كاملة.
وعوضا عن افتعال مسببات حقد المواطن على الدولة وتخويف الناس وترويع أمنهم حري ببعض المتهافتين على “الاستثمار” في الأزمات أن يعيدوا حساباتهم تجاه وطن يزعمون الانتماء إليه: ما في المغرب من مشاكل اجتماعية واقتصادية وتدبيرية يكفيه عن مزيد شحن سلبي لعواطف متذمرة أصلا.
يجب أن نعطي للوقت وقتا دون المراهنة على الوقت نفسه للنسيان. وحين تتكشف خيوط ملابسات وفاة الطبيب العسكري كلها، و في حال ثبت أن الحادث كان مدبرا أراهن من الآن على وجود بصمة خارجية. طبيعة التوقيع الملتبس على النهاية يجعل شكوكي تسير في هذا الاتجاه دون غيره.
المغرب لا يفرط في أبنائه…لكن قوى الشر و الظلام يمكن أن تفعل ما لا يخطر حتى على بال إبليس نفسه.
رحم الله مرادا وحمى المغرب والمغاربة.