أحمد الجَـــلالي
من بين ركام عرمرم للغثاء “الفني” المجبول على التباكي أمام اعتاب الدعم الحكومي لم نسمع دقيقة من غناء دعما للكفاح الإنساني الشريف في غزة ولا صرخة لعنة من “فنان” لحرب الإفناء والإبادة الجارية في أكناف بيت المقدس.نعمان لحلو وقف وحده استثناء شامخا.
قطرة شرف فني واحدة ويتيمة للأسف تلك التي وقع عليها نعمان لحلو، وريث الفن المغربي الأصيل والصوت النشاز في خصم جوقة الابتذال والاسترزاق. نعمان بهذا يكون قد حجز لاسمه مكانه مشرقة في التاريخ بآخر إبداعاته الرصينة التي سماها “غزة وشهود الزور”. نعمان أيها الحلو: لا شكر على واجب تعرف جيدا معناه.
اهتمامي بالفن الملتزم والراقي، متابعة نقدية واستمتاعا، ممتد الى الطفولة وسنوات المذياع الذي حفظت عبر امواجه مئات الأغاني شرقية وغربية ومغربية..ومازالت طريقة إلى اليوم في الذاكرة.
عندما تعاطيت الصحافة مهنة وعشقا ظهر اهتمامي بالفن الى جانب التحقيق والربورتاج والسياسة والحوار. فحاورت كثيرين وكان من ابرزهم رواد “الغيوان” مثل علال يعلى في اول لقاء صحفي مطول له مع يومية ورقية. والى جانب علال ربطتني فترة معرفة تطورت الى صداقة وود مع الكبير عمر السيد.
والمناسبة شرط، إذ ليس خافيا موقع القضية الفلسطينية في “ربيرتوار” الغيوان وسلالته الشريفة من باقي المجموعات الرائدة كجيل جيلالة ولمشاهب وازنزارن.
الغيوان سجلت للتاريخ “واشنو ذنب يافا وحيفا وعكا..” و “صبرا وشاتيلا..عتقوها امي فلسطين لا تفوتوها..الدنيا سكتات..وغيرها كثير.
جيل جيلالة صدحت بالسؤال المؤلم الضروري: صهيون في البيت يهدم وانت في الامر مسلم..يا عربي يا مسلم إمتا ناوي تعزم؟”
اما لمشاهب، الملتهبة ابداعا، فقالت في لحن خالد: “فـــلسطين فـــلسطين يا أولى الــقبلتين يا ثـالث الحرمين يا روح في الذات ﭐسيرة يا أصالة و عروبة و غيرة”
اما الغيوان الامازيغي ازنزارن فغنت بإبداع رهيب لفلسطين:
و صهيـون يوسيـن توزالـت أوكـان أريقـرس
إغ نمـون أوقريـان لهينـت أورك إيسلكـم إيـاتي
ترزمـت إ ؤوشـن غ توزومـت ن ؤولـي أريقـرس
والمعنى التقريبي: أيها الصهيوني يا ذابح الانسان
تبجح بغطرستك فلن تبلغ المراد
قبل عشرين سنة من اليوم وبعد أيام قليلة من مذبحة كان الصهاينة قد اقترفوها في جنين الإباء والصمود، التقيت عمر السيد في الرباط. كان متجهما ويميل للصمت بعيدا عن دعاباته المعروفة.
كنت اختلس النظر الى قسمات وجهه وعنقه في منطقة الحنجرة من حيث خرجت كلمات الاغنية الخالدة “القسم” وهو يصدح: قسما ما تفوز صهاين كهان..ولا مجوس ولا مبيوع فكل مكان”.
ثم فاجأني عمر بالقول بلا مقدمات: شوف مع هادشي لي واقع (يقصد مذبحة جنين) وخا تشوف الناس بحال يلا ممسوقينش راهم مضرورين فدواخلهم..وتلقا الواحد كيحس بحال يلا غادي وسروالو طايح.
ظلت هذه الصورة ملازمة لمخيلتي كلما اشتد البطش بالأشقاء في فلسطين أتصور سراويل مليار مسلم عربا وعجما قد سقطت من على مؤخراتهم وهم يمشون امام كاميرات العالم.
واليوم، مع الهولوكوست الحقيقي الذي اقترفه المسترزقون بالهلكوست النازي، قد سقطت السراويل والتبابين والاقنعة من على وجوه النفاق والخنوع والتآمر.
ــ كشف الصهيون عن وجهه البشع وقال عرابه النتنياهو للزعماء العرب: اخرسوا كلكم..ولم يجبه أحد.
ــ ومصر الـ 105 ملايين مواطن وصاحبة واحد من بين اقوى جيوش العالم عاجزة عن فتح معبر رفح في مشهد من الإهانة والعار لم يعرف له التاريخ مثيلا.
ــ الأردن التي وقعت مع الاحتلال اتفاق سلام لم ينفعها “السلام” وها هي مهددة من قبل نظام الغطرسة والعنصرية في امنها الداخلي ومستقبلها عبر مخطط تهجير قسري للضفة الغربية نحوها، مع ارهاصات نية الاحتلال الانقضاض على غور الأردن، سلة الغذاء الرئيسية للمملكة الهاشمية.
ــ اردوغان، بياع الكلام، كل ما افلح فيه حتى اليوم هو التصريح تلو التصريح وكأن مخازن سلاحه بيعت او احترقت كلها.لو يرسل مسيرات للدفاع عن غزة واكتفى بإرسال “الدعاء”.
ــ السعودية، الجالسة على اكبر ثروة نفطية بالعالم، لم تفكر حتى في مجرد التلويح بسلاح النفط، ولو من باب التذكر انها المملكة التي حكمها يوما المرحوم فيصل بن عبد العزيز..بطل حرب قطع النفط عن الغرب.
ــ وفي المغرب، تستمر المسيرات أسبوعيا في التعاظم، وعلى لسان عشرات الالاف: أوقفوا التطبيع. ولا بوادر لوقف تطبيع لم يعد له معنى مع كيان غير طبيعي بالمرة.
أفتش عبر بحر الانترنت على أسماء مثقفين وكتاب اعرفهم جيدا وأدرك مواقفهم السابقة فلا أجد غير صمت قبور فأتساءل عن الأسباب المقنعة: أهو الخوف؟ وممن هذا الخوف؟ أهو اليأس؟ وإن كان يأسا فأين الايمان بدور المثقف.
أطال الله عمرك يا عمر السيد وشافاك : لقد سقطت السراويل فعلا.
ولأن أمواج طوفان الـ 7 من أكتوبر المجيد كانت أعتى من ان تقاومه الأقنعة فقط تعرى الكل في مشهد درامي تجلت فيه حكمة الخالق الفاضح الماحق.
وفي وسط هذا الكرنفال العربي الكوني للتعري بطواعية ليث بعضهم قد حافظوا على السنتهم النتنة في اماكنها ولم يزكموا الصادقة قلوبهم بما تغوطت به أفواههم النجسة.
فقد خرج على الناس بعض العلوج ليقولوا ان الحل الوحيد هو القضاء على المقاومة بينما اطل مخلوق آخر مشوه ليعلم “أبا عبيدة” السنة.
والحقيقة ان المقاومة لا تنتظر البارود من بيت أم الأول لتتوقف او يقضى عليها، و أن معنى السنة في قاموس مدن الملح هو المضي قدما كالقطيع نحو المسلخة برؤوس ذليلة مطأطئة، ولذلك لا غرابة أن يؤلمهم مشهد وقوف شاب يملك عمودا فقريا حقيقيا، لقبه أبو عبيدة، ليجعل العالم كله يجلس ارضا ليستمع اليه باهتمام.
هذه الكائنات المسخ ستصاب بالجلطة ان انكسر الصهاينة او حتى أعلنوا هدنة طويلة او قصيرة.
ليستمر المرجفون المثبطون في هذيانهم ولنغن نحن المغاربة تخليدا لذكرى الغيوان القضية:
عتقوها امي فلسطين لا تدوزوها..عتقوها كيف لحياة كاملة جعلوها
قبل الختام، أشير إلى أنني اكتشفت خلال العام الماضي قناة لشقيقتين من فلسطين (نور وندى) تعرضان أغاني ناس الغيوان وتكتشفان باندهاش حضور فلسطين لدى المجموعة وتبذلان الجهد في فهم كلمات الدارجة المغربية.
وقد لاقت أشرطتهما متابعات قياسية فتحت عين الجيل الفلسطيني الشاب على الفن المغربي الذي تبنى قضية فلسطين قبل ولادة بعض من آباء هؤلاء الشباب.

واليوم مع ظروف غزة القاسية وانقطاع الانترنت عنها أضع يدي على قلبي خوفا على مصير “نور وندى” و أدعو الله لهاتين الشابتين الغزاويتين، ولكل أهل فلسطين، بالسلامة من كل أذى والنجاة من شر وحوش بني صهيون.
آمين يا رب العالمين.