أنا من جيل “الجفاف والخيبات”..هذا هو الحسن الثاني الذي أعرف

أحمد الجــلالي

مرت قبل أيام الذكرى العشرون لرحيل الملك الحسن الثاني.عقدان مرا هكذا ومعهما خرج إلى الوجود جيل ولد قبيل أو بعيد وفاة ملك سمعنا من يصفه في إعلام ذلك الزمن بأبي المغاربة وباني المغرب الحديث.

ولأن زعماء وملوك ورؤساء كل الأمم ــ بصرف النظر عن الموقف منهم ومن سياساتهم ـ جزء من تاريخ الشعوب وذاكرتها المشتركة، فإني كواحد ممن فتحوا أعينهم على عهد الحسن الثاني وهو في صولته، فلي كغيري بلا شك، ذكريات مع هذا الرجل، أو على الأصح ذكريات مع صورته التي في دواخلنا، والزمن الذي حكمنا خلاله.

وأنا طفل فتحت بصري على صورة بالأبيض والأسود،ظلت عقودا في “بيت أمي” معلقة باتجاه الشرق فوق نافذة مثبتة. لعبنا بالبيت ورقصنا و ضحكنا وأكلنا وبكينا ونمنا وحلمنا بالأعراس والكوابيس..والملك ينظر إلينا من خلال تلك الصورة نظرة حاكم قوي.

أعني الصورة المرفقة بهذا المقال، والتي ظلت أول ملمح في مخيلتي يأتي إلى ذهني كلما ذكر اسم الراحل. هي أمور تطبع في لاشعورنا باللون الأول فتظل مقاومة لكل الألوان والأشكال.

ماذا عن الحسن الثاني الصوت؟ كان ببساطة مقرونا في مسامعي بخطابات عيد العرش عبر ذلك المذياع “الفيليبس” ذي البطاريات الحمراء الجميلة المحشوة في ظهره، وتلك الرنات الرائعة عبر الخامة الصوتية المميزة لرجل كنا نحفظ كلامه ومازلنا عن ظهر قلب.

لن أنسى ذلك الخطاب في ثمانينات القرن الماضي حين نصرنا الحسن الثاني على “الخوف” من الباكالوريا عبر إعطاء انطلاقة نظام الوحدات. تفتت بعبع الامتحان بقرار لم يكن منتظرا عندنا وقد كنا مقبلين بعد سنوات قليلة على تلك الشهادة التي “جننت” شبابا وأسرهم في ذلك الزمن.

ولأن السياسة في عهد الحسن الثاني كانت ممارسة غير مرغوب فيها متوجسا من عواقبها عند غالبية المغاربة فقد كنت في طفولتي ومراهقتي الأولى أظن أن ذكر اسم الملك “سياسة”، ولذلك همس في أذني ميلود، صديق المرحلة الابتدائية، يوما هذا الصوت :”حساندو”، وكلما طلبت سألته ماذا يعني؟ كان يقطب ما بين حاجبيه فيزيد حيرتي.

ظل “حساندو” هذا الصوت الذي يخيفني حتى وأنا أدهل معناه، ظل يرافقني إلى أن وعيت هذه اللغة المسماة “فرانصي” بل تفوقت فيها على كثير من أقراني. ساعتها ضحكت كثيرا من نفسي ومن “الميلودي”، كما كان يريدني أن أناديه، وأنا أصر على “ميلود”.

ظل الحديث عن الملك والاستماع لخطابات الملك يصاحب الشاي كل ليلة في “بيت خويا”. فأنا أنتمي ــ لسوء حظي ــ لأسرة تتابع الأخبار والسياسة وأحوال الطقس منذ عرف المغاربة شيئا إسمه الإذاعة، وقد كان هذا سبب “إعدادي وبرمجتي” مسبقا للوثات سكنتني ولم تفارقتي حتى القبر: السياسة و الإبداع/الأدب و الصحافة.

الحسن الثاني، الذي طبع جزءا معتبرا من تاريخ المغرب بذوقه ومزاجه و ورؤاه وطموحاته وهواجسه..لم ألتقه قط في الواقع، لكنه زارني مرارا في المنام قيد حياته وبعد وفاته.و اللافت أني رأيته في ما يرى النائم وهو مبتسم متواضع بجلباب أبيض يقترح علي شيئا ما في كل مرة، لم أتبينه بوضوح.

الملك الراحل عنا قبل عقدين ظل في أذهاننا رمزا لأمرين متضادين: المحافظة والتحديث: فهو صاحب الجلباب الجميل والدروس الحسنية، وهو صاحب البدلات وربطات العنق الباذخة و رياضة الغولف، وهو الخطيب العربي الفصيح، وهو  المفرنس حتى النخاع..أيضا.

 هو محب الخيول وممتطي صهواتها، و العاشق للسيارات والدراجات النارية. وربما باستمرارنا في التعايش مع هذه المتقابلات في شخص ملكنا، تعودنا على تذويب المفارقات في شخصياتنا والتعايش مع الأضداد لا كمتناقضات بل كمكونات ووجوه عديدة تنصهر وتتكامل في أعماقنا.

في أواخر حياته هو كنت في بداية تفتق وعي وشخصيتي. ولأني من جيل جربوا فينا كل شيء، بما في الأمر برنامج التقويم الهيكلي المشؤوم، فقد قاسيت الارتطام بالأبواب الموصدة في الدراسة رغم التفوق المبهر الموثق، وفي الشغل على أنف الشهادات والتكوين و ملكة العطاء والإبداع..لكل هذا وغيره كثير أدركت أني من ضحايا جيل خيبات عهد الحسن الثاني.

السنوات الأخيرة من عمر عهد الملك الراحل ظلت وستبقى ذلك المزيج من الجفاف القاسي والأمل المراوغ. كلما عدت بالذاكرة إلى 97-99 تحسس كبدي سكين الانتظار تحت قيظ ممزوج برائحة إسفلت ملتهب.كانت لريح تلك الحقبة عويل مرعب. كان المغرب ونحن شباب يحوم معظمنا حول الثلاثين يعيش حالة ترقب شيء مبهم.

كنت في تلك الفترة غارقا بين ثلاثة أمور: عشرات الكتب بثلاث لغات، ومحاولات انتحارية للهجرة وقذائف شعرية شبه يومية وصل تعدادها المئات.

 كنت أقاتل اليأس بزراعة الأمل حتى لو سقيته بمطر الأوهام، وأباشر في خيالي كل ليلة ملاحم الحب..كي لا ينتصر الحق.

كان ملايين المغاربة ينتظرون حلولا من الله، ومن  الحسن/الأب..وأبواب الرجاء مواربة.

كنت عائدا ذلك اليوم من الرباط إلى القنيطرة، وبحي الخبازات لاحظت صمتا والقرآن يتلى..وقلقا في وجوه الناس. اشتريت يومها قميصا. سألت صاحب المتجر عن القرآن يتلى في الإذاعات..اقترب مني كما فعل “ميلود” وهمس بخوف: وقيلا الملك مات.

 ذكرى نهاية عهد الحسن الثاني في ذاكرتي ليست صوت مصطفى العلوي و لا مئات الأولوف من أبناء الشعب وهم متجهون إلى الرباط ،ولا كلينتون وعشرات الزعماء بالجنازة..أبدا ليس هذا.

الذكرى المطبوعة في الوجدان، وبالأبيض والأسود هي: بعد تأكد خبر الوفاة، وبينما كاتب هذه المقال هائم على وجه ليلا من حي الساكنية بالقنيطرة إلى اللااتجاه..أشعر بتيه..أتوقف قرب مقاطعة..قرب المكان جنود وعناصر قوات مساعدة ورجال أمن.

قبالتي تماما ضابط يقف متسمرا بوجه قاس متجهم..أنظر إلى وجهه..ينظر إلى وجهي مباشرة..أخطو تجاهه لا إراديا..يقترب نحوي..لم نتحدث ولم نتبادل تحية..فتحت الأذرع.. تعانقنا وبكينا بغزارة، كأخوين التقيا بعد سفر في يوم جنازة أبيهما.

رحم الله الحسن الثاني.

www.achawari.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد