أحمد الجلالي
في ذلك الصباح، استيقظت باكرا، بل قل إني لم أنم أصلا.سبق لي أن سافرت إلى بلدان وطفت ما شاء الله لي في دنيانا هذه ما استطعت لذلك سبيلا.لكن رحلة هذا اليوم ليست إلى وجهة عادية.إنها فلسطين..هكذا، هذه “الفلسطين” التي ظلت تسكنني قضية ورمزا وشعرا..جاء اليوم الذي سأراها فيه؟
نحن الصحافيين، تعد مهنتنا من أصعب المهن هذا صحيح. لكن على الذين يسمونها مهنة المتاعب ألا ينسوا أيضا أنها مهنة المتع، فهي تسحقك لأنها طاحونة تسرق العمر، لكن بين الفينة والفينة ـ وكأنها حبيبة قاسية ـ تتلطف بنا فتمنحنا ما يجعلنا لا نندم كثيرا أننا اخترناها مهنة حياة: لولا هذه المهنة ـ هكذا قلت لنفسي وقطار الثانية صباحا يقترب هديره ـ لولاها لما كتب لي أن أزور فلسطين.
شغلت نفسي في الساعتين اللتين تفصلان القنيطرة عن مطار محمد الخامس بقراءة أي شيء.وصلت باكرا جدا إلى المطار.أكره نوعا من الانتظار: انتظار الطائرات والقطارات.
لكن ما أن أستقل قطارا حتى ترد على خاطري مشاريع روايات وأفلام لا تخطر ببال، وبمجرد أن أصير في الطائرة فوق الغيوم محلقا حتى استغرق في نوم عجيب تتخلله دائما أحلام سوريالية.لماذا أحلم في الطائرة تحديدا؟ لا أدري.
في الطريق إلى المطار أرسلت رسائل إلى الزملاء لكن لا أحد رد عليها. سأكتشف لاحقا أن منهم من سيمر عبر تركيا ومنهم من مر عبر القاهرة بينما كان علي أن أمر عبر مطار تونس قرطاج.
فكرة التوقف في مطار ما لا تروقني كثيرا، فضلا عن أنها متعبة جسديا لأنك تنزل وتصعد ثم تنزل..ونفسيا لأنك تنتظر ساعات في بلد ما وليس من حقك الخرج عن “منطقة العبور”.
أقلعت الطائرة المتوجهة إلى تونس من مطار البيضاء في تمام الحادية عشرة والربع.وكما أسلفت، ففي الساعتين من الطيران بين عاصمة الاقتصاد المغربي ومطار قرطاج الدولي نمت وحلمت.
وصلنا بحمد الله إلى تونس، أو بالأحرى إلى المنطقة الدولية بمطارها.سبق لي أن تعرفت على توانسة بالمغرب وخارجه لكني لم أزر تونس قط، رغم أني سمعت فريد الأطرش وأنا بعد طفل يغني “تونس أيا خضرا..يا حارق الأكباد”، فهمت أن يكون بلد ما أخضر لأني ابن حقول منطقة الغرب دائمة الاخضرار، لكن رفض عقلي الصغير أن يجمع شاعر ومغن بين الخضرة وحرق الأكباد.
ها نحن في مطار قرطاج.المدخل من الطائرة إلى المطار بدا لي مشابها في كثير من منعرجاته وشكله لمطار محمد الخامس.بعد حديث قصير إلى بعض موظفي المطار اهتديت إلى حيث كان ينبغي أن ننتظر.
تطلعت في كل زوايا قاعة الاستراحة فوجدت لافتات “ممنوع التدخين” ـ أينما ذهبت لابد أن أصحح شيئا: التدخين ممنوع وليس ممنوع التدخين، من أدخل هذه اللغة الجديدة إلى قواميسنا؟؟ هكذا قلت لنفسي.كان صوت مسجل لفتاة يكرر على مسامعنا أن التدخين ممنوع ويتوعدنا بغرامة مالية..أووووف..لماذا يصنعون لنا هذه البلوى ثم يبيعونها لنا، وفي الأخير نصبح مستهلكين منبوذين؟؟؟
وجدت مكانا للتدخين، وكانت فرصة لكي أتأمل بعض المشاهد:
بدت لي جبال غير عالية كثيرا قريبة من المطار.ماذا يسمونها؟ لا أعرف.
لا أدري لم كان يتردد في ذهني صوت رهيب : بن علي هرب بن علي هرب بن علي هرب.
تذكرت تاريخ تونس، وفرحات حشاد، ولحبيب بورقيبة…وأغنية “أعطيني شريبه لله…” للراحلة علية. لتونس في ذاكرة المغاربة الكثير مما يستحق التدوين والدراسة بلا شك.
في القاعة، كان بالقرب مني مزيج من الجنسيات العربية: سوري وليبي، وخليجي لم أميز من أي بلد هو…وأنا.كانوا يتحدثون في كل شيء، لكن السياسة اللعينة ووضع الشرق الأوسط بدا طاغيا. فضلت أن أصمت وأستمع..لكن أحدهم كان فضوليا وبدأ سألني عن كل شيء تقريبا: لم لا تتوقف عن عادة التدخين؟ كيف هي الأوضاع السياسية والاقتصادية بالمغرب؟ إلى أين أنت متوجه؟؟؟
أحسن طريقة مع هذا الصنف من الناس هو أن تجيبهم بسؤال.ذلك ما فعلت بالضبط.تركته حتى أنهى وابل أسئلته وتعمدت أن أسأله بالدارجة المغربية:
معندكش لوقيد؟
ما فهمت
عندك شي بريكة؟
شو يعني؟
واش بصح بنعلي علق؟
تركته يحل ألغار هذه الدارجة التي “أكرمنا” بها الله ومضيت إلى المقهى.بددت أكثر من ساعة أتفرس وجوه الناس وأحاول أن أجد مبررا للحالة العامة من اللافرح التي بدت لي طلاء على وجوههم جميعا.أو هكذا تخيلت.
صعدنا إلى الطائرة.من سوء حظي لم يكن مقعدي قرب النافذة.أحب دائما أن أرى الأمور من عل. أن أتشفى في كل ما هو شاهق عندما أكون فوقه أرقبه بعين تعيده إلى حجمه الطبيعي: الصغر. أهي رغبة مني في التسامي أم الاستكشاف؟ تطلعت إلى تونس من فوق.أحببت المناظر، والمياه تحديدا.وتوكلت على الله في نوم عمق آخر.وددت لو أنهم لم يوقظوني لأي أكل.أصلا، هل يمكن أن نسمي ما يقدموه لنا من مسخ أكلا؟
كانت الرحلة طويلة جدا إلى الأردن. وبعد نوم وحلم ويقظة ثم نوم….حطت الطائرة بحمد الله في مطار الملكة علياء.هذه أول مرة أطأ فيها أرض الأردن.لا أعرف فيها أحدا وليس لي بهذا البلد أية روابط شخصية، لكن أشياء كثيرة ظلت تشدني إلى المملكة الهاشمية منذ صغري: الملك حسين رحمه الله كنت وأنا طفل أصدق أنه شقيق الحسن الثاني.قلت لنفسي دوما عندما كنت أسمع اسمه في مذياع جدي عندنا الحسن وعندهم الحسين و “الحسن والحسين” في ذهني لا يمكن أن يكونا إلا توأمين.
في تلك الطفولة البعيدة، بعد أن اشترينا تلفازا صرت أرى ملك الأردن.أحببت بصدق بشاشته وتواضعه.وزاد يقيني أنه أخ الحسن الثاني “لأنه عانقه في التلفزيون”.
بعد أن صرت طالبا جامعيا، التقيت طالبا أردنيا فسألته عن ملكهم، والذي لا يصدق أن الطالب أكد لي كثيرا من الانطباعات التي كانت في عقلي عنه منذ الطفولة.
ولما صارت وسائط الاتصال، وعلى رأسها الإنترنت متاحة لنا، صرت أتابع أخبار الملك عبد الله الثاني، ضمن اهتمامي بما يقع من أحداث وما يصدر من مواقف في الوطن العربي.
لست متخصصا في الشأن الأردني، لكني كمواطن عربي مخضرم وجدت في ملك الأردن كثيرا من المعايير التي أحب شخصيا أن تكون في زعمائنا المعاصرين: رجل من جيلنا، واسع الثقافة، يتقن اللغة الإنجليزية ويتحدثها بطلاقة ملفتة.إذا ارتدى اللباس العربي بدا وقورا، وإن لبس الزي العصري بدا شابا رياضيا.في تصريحاته التي شاهدت، لاحظت أن كلامه محسوب ولا مجال للحشو في حديثه.
أما الفيديو الذي راقني كثيرا فهو ذاك الذي يصادف فيه شبانا على الشاطيء ويتوقف عندهم ثم يحدثهم بلا كلفة أو بروتوكول.
بحكم موقع الأردن، وواقع الجوار العربي، لاشك أن إدارة البلاد والحفاظ على سلامة المواطنين بها لا يتطلب الحنكة فحسب، بل كثيرا من الحكمة أيضا.حمى الله هذا القطر الذي كلما حدثت كارثة في بلد عربي جار إلا وكانت الأردن الملاذ والمأوى.
سميرة توفيق، هذه الفنانة الأصيلة كانت واحدة من الأصوات المحببة لي ولأسرتي، ولا شك إلى قلب فئة واسعة من الشعب المغربي…”يا علي بيع الجمل…” ما أحلاها أغنية وصوتا ولحنا.
مرحبا بنا في الأردن.هنأت نفسي وقلت: أصبحت قريبة يا فلسطين.
المفاجأة التي كانت تنتظرني وزميلة برفقتي أننا لم نجد أحدا في انتظارنا.لكن بعد حوالي الساعة استطعنا ربط الاتصال بالزميل البشوش عبد الوهاب الزغيلات، رئيس لجنة الحريات في اتحاد الصحافيين العرب، الذي وبكل أريحية دبر لنا سيارة أجرة مريحة، وما هي إلا نصف ساعة أو أكثر بقليل حتى وجدناه ينتظرنا في مدخل فندق “لاندمارك”.
ولا أنسى هنا المعاملة اللائقة التي وجدناها في موظفي الاستعلامات بالمطار.شبان في منتهى اللباقة، ساعدونا بالهاتف ودبروا أمورنا بكل مهنية وترحاب.
فندق “لاندمارك” وجدنا فيه كل المواصفات التي يجب أن تتوفر في الفنادق الفخمة.كانت إقامتنا به مريحة وتليق بالصورة السياحية للأردن.
كانت الأمسية الأولى فرصة للتعارف مع كثير من أعضاء الوفود العربية من الزملاء والزميلات: الأردن، مصر، تونس، موريتانيا…وكان اليوم الموالي موعد التوجه إلى فلسطين الحبيبة.
وفي هذا العبور سأكتشف أمورا كثيرة، وكانت فرصة ميدانية لي كي أعرف من هو الزميل النقيب عبد الله البقالي، الذي التحق بنا في عمان فجرا وسيباشر بعد ساعتين فقط من النوم مسؤولياته تجاه الوفد المغربي وتجاه المؤتمر بصفته نائبا للأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب.
إلى الخميس المقبل مع الحلقة 3
www.achawari.com
