هنا مخيم عايدة :الكل مسجون إلا الفراشات والطيور

 أحمد الجلالي


تركنا الحرم الإبراهيمي خلف ظهورنا وولينا الوجوه صوب مكان ما دخلناه ليلا.لم أعرف في البداية أين نحن ولم توقفنا.

توقت السيارات جميعها وترجلنا، كنت في السيارة الثالثة. عند النزول تراءى لي على ضوء مصابيح الشارع مفتاح ضخم علق في مدخل ذلك المكان من الأرض الفلسطينية.

مرحبا بكم في مخيم عايدة.

وقبل الاستطراد في هذا السرد لا بد من إعطاء القارئ غير الفلسطيني فكرة عن “مخيم عايدة”:

تأسس مخيم عايدة للاجئين، و يقع بالقرب من مدينة بيت لحم في الضفة الغربية من فلسطين عام 1950 بواسطة اللاجئين الذين قدموا من مناطق القدس والخليل.

ويأوي المخيم اليوم ما يزيد عن 4700 شخص. وبفعل سياسة الخنق التي يمارسها الاحتلال، لم ينم هذا المخيم من حيث المساحة رغم أن تعداد سكانه صار بالآلاف،مما يجعل هذه القرية من أكثر الأماكن كثافة سكانية في العالم.

لكم أن تتصوروا حال قرابة خمسة آلاف إنسان في مساحة كيلومتر مربع إلا ربعا. وكل هذا في واقع اقتصادي واجتماعي غاية في الهشاشة، ذلك أن نسبة البطالة تبلغ 43%، في ظل الصعوبة الكبيرة للوصول إلى سوق العمل داخل الكيان الإسرائيلي.

استقبلنا شباب من أهالي المخيم بترحاب لم يعد غريبا علينا في تلك الأيام التي قضيناها بفلسطين،أو بالضفة الغربية فقط من فلسطين السليبة.

ولأن مصابيح الكهرباء بأزقة المخيم كانت متهالكة فلم يكن يسيرا تبين الوجوه.

أول شيء أثار حاسة الشم عندنا رائحة كريهة جدا تنبعث من كل مكان. لم يترك مستقبلونا حيرتنا تطول فجاء الجواب سريعا وصادما مع اعتذارهم عن شيء هم ضحيته.

هل تتوقعون السبب؟

ببساطة صهيونية لا إنسانية عنصرية مقيتة، قامت قطعان جيش الاحتلال بملء أطنان كثيرة من مياه الصرف الصحي الملوثة بالقاذورات ورشت بها المخيم كله.

لا تستغربوا قرائي،فهذا أضعف مكر سلالة يأجوج وماجوج تجاه المواطن العربي، مسلما ومسيحيا، وغير بعيد عن كنيسة المهد حدث كل هذا.

انتابتني نوبة من الغضب الكاسح.شعرت أن هذه الأمة المسماة عربا ـ وليس أهل مخيم عايدة المرابطين ـ هؤلاء العرب نفطهم وبشرهم ومساحاتهم المترامية وذهبهم وجيوشهم وزراعتهم وزفتهم.. ليسوا بين الأمم في زمن الاستعلاء الصهيوني سوى كتلة براز رشها جيش الاحتلال برذاذ الخراء.

قلت لنفسي بمرارة: وأنت أيها الصحافي الذي دخل هذه المهنة بنية فعل شيء..انتهيت إلى مجرد قائل من القائلين..أنت أيها العاجز عن غير الكلام، أنت ابن أمية عربية قدت من عجز خاريء بوعي أخرأ منه..تفو تفو تفو..

لفتني غمامة سوداء من الحزن القاتل، شعرت برغبة حارقة في الانتحاب وسط سكان المخيم، تمنيت أن أعلق عنقي في ذلك المفتاح العملاق، مفتاح العودة ومعي كل خونة الأمة وكلابها، تمنيت لو أن راسي صار فأسا متفجرة فأضربه مع جدار الفصل العنصري فيتفجر ذلك السور العار على وجه الإنسانية الكذابة المنافقة وتصيب شظاياه عيون المتفرجين على أكبر مأساة في تاريخ الإنسان فتعميهم جميعا.

انتشلني زميل من موريتانيا من كوابيسي الصاحية وأشار علي أن اتقدم لأن الجماعة ساروا في زقاق آخر.

سرت خلف زميلي عبد الله المختار بخطوات منكسرة فوجدت نفسي مع بقية الزملاء في ساحة صغيرة من ساحات المخيم المزدحم.

الفلسطينيون قدرهم المقاومة، وهم مبدعون فيها بل أساتذة العالم في هذا الفن.

في الساحة رسومات كثيرة بدلالات مؤلمة. صورت ما استطعت، لكن عبارة بعينها ستبقى في الذاكرة ما حييت كتبت بالعربية والانجليزية مع صور طيور تقول بالحرف: “هنا فقط الفراشات والطيور حرة”.

حلمت بأن نصير جميعا طيورا أبابيل نرمي الظالم بحجارة من سجيل.

رباه أغث هذا الشعب بطيورك السجيلية.

 www.achawari.com

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد