غزة تمـزق الغــلاف..”طوفان الأقصى” يُسقط الخرافات ويدمر اليقينيات

 أحمد الجَــــلالي

بعد تخطيط رهيب غاية في السرية وطويل النفس، تسللت أفواج المقاومين الفلسطينيين ليلا من غزة، ولم يشعر بحركتهم حتى سكان القطاع، وتوجهوا إلى ما يسمى غلاف غزة. هتك الشباب “الغلاف” ومضوا إلى إكمال المهمة التي شملت السيطرة على عدة مواقع عسكرية إسرائيلية، فضلا عن وضع اليد على عدد من المستوطنات:إنها عملية طوفان الأقصى.

وقد جاءت هذه العملية التي تشبه المعجزة العسكرية في اعقاب سلسلة من الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين وانتهاكات مقززة للمقدسات وفي قلبها تدنيس الأقصى مرارا وتكرارا.

وما بين 6أكتوبر 1973وصبيحة الـ 7 أكتوبر 2023 مر نصف قرن من الصراع العربي الإسرائيلي وتغيرت  معطيات كثيرة على الأرض وتحت الأرض، ولكن الاحتلال لم يشمل عقيدته المؤسسة على الغطرسة والعنصرية أي تغيير.

فبينما كان الإسرائيليون يحتفلون بأحد أعيادهم، في ليلة سبت دافئة، جاءت مجموعات المقاومين لتنقض عليهم وتُفهمهم أن ليس كل الأعياد تنتهي بالفرح والنوم العميق. وقد كان اختيار التوقيت مدروسا ومخططا له دون أدنى شك.

استفاق العالم، والداعي لكم بالخير مثله، ليشاهد قصاصات إخبارية وبعض الفيديوهات التي كانت قد بدأت في الانتشار، ولكني حسبتها فقط جولة أخرى من شغب المقاومة وسرعان ما ستلملم القضية…كما جرت العادة. غير أن الوضع هذه المرة كان قطيعة مع المعتاد.

 

 ثقة عالية في النفس:

شاهدت مسلحين داخل مستوطنة يرشون عناصر الشرطة الإسرائيلية بالرصاص من على سيارة تويوطا، بكل هدوء كانوا يتحركون وكأنهم داخل القطاع. ثم توالت الفيديوهات الموثقة لرجال يمتطون دراجان نارية ويقتحمون معسكرا كأنهم يدخلون ناديا أو ملعبا رياضيا للقيام بروتين رياضي..بلا مقاومة تذكر…أين “أهل المكان”. لعلهم كانوا نواما أو قد فروا أو تمت تصفيتهم. دققت في أبراج المقاومة: لم يكن هناك أحد. أين ذهب القوم؟

واستمر الإبهار من لقطة إلى أخرى وتبدت آثار القتل والدماء والجثث في كل مكان، ثم ظهر ما لم يكن متوقعا: الأسرى يصلون تباعا إلى غزة على المركبات الإسرائيلية العسكرية فيما الأهالي يحتفون بالمقاومين ويهللون لهذه الغنائم التي لم يرها نتنياهو ولا قيادات جيشه حتى في أسوأ كوابيسهم.

كان لافتا أن رجال المقاومة يتصرفون في هذه الأمكنة وكأنها مألوفة لهم بحيث لم نلحظ ارتباكا ولا صراخا ولا تشنجا. كانوا مسيطرين تماما على الموقف وكأنهم في روتين مهني اعتادوا عليه.

ووصل الإبهار ذروته عندما ظهر أو فيديو لطائرات شراعية من صنع فلسطيني تنزل تباعا خلف خطوط العدو. طائرات تبدو بدائية مقارنة بما يتوفر عليه جيش الاحتلال من عتاد عسكري، غير أنها تبقى معجزة فلسطينية أخرى بالنظر إلى وضعية غزة المحاصرة برا وبحرا وجوا منذ 17 سنة.

 

 المباغتة والإرباك:

 

وبينما كان العالم أمس السبت يتابع ما يحصل على طول التماس مع غزة، في عشرات المواقع سواء كانت تكنات ومراكز عسكرية أو مستوطنات، كان الجميع يتطلع لرد الفعل الإسرائيلي. لكن يبدو أن الإسرائيليين استفاقوا متأخرين وحين فتحوا الأعين وقعوا تحت صدمة منعتهم من التصرف قولا وفعلا. وبعد ساعات هي الأمر على دولة الاحتلال منذ تأسيسها، قيل إن نتنياهو سيعقد اجتماعات…مساء.

كان للمباغتة فعل الصدمة المؤدية للشلل، وفعلا أصيبت الماكينة الدعائية والعسكرية العبرية بالشلل طيلة أزيد من نصف يوم، وهي لا تزال حتى يومه الأحد لم تتخلص كليا من هول الكابوس الفلسطيني الذي نزل عليها والناس نيام.

 

 إدارة المعركة الإعلامية:

من علامات التخطيط المحترف أن المقاومة في شق إعلامها العسكري قد خططت مسبقا لتكون هذه المعركة مصورة وموثقة. ومنذ الساعة الأولى استخدمت قيادة المقاومة ذخيرتها المصورة وجعلت منها قذائف مدمرة كانت تنهال بها على العقل الإسرائيلي الذي يعتبر رائدا في فن الدعاية والتضليل واستثمار الإعلام حتى نخاع العظم. وقد لاحظت من خلال جودة التصوير أن من قاموا به في الميدان كانوا يفعلون ذلك وهم “مرتاحين نسبيا”.

ومن يتابع القنوات الإسرائيلية حاليا سوف يلحظ وجوما غير معتاد على الوجوه و حشرجة المنهزم في الأصوات، وهذا وضع يخالف تماما ما كانوا عليه في كل مواجهاتهم السابقة سواء مع فلسطين أو لبنان.

 

حرب الرموز:

 

يمتد الاستثمار في صور المعركة الطاحنة التي تدور حاليا داخل “إسرائيل” من حيازة الأرض والاستيلاء على الآليات والمعدات ليصل إلى القصف بالرموز لإحداث الهزيمة النفسية، وإليكم بعض النماذج:

 

ــ جرافة فلسطينية تزيح الجدار العازل، وبهذه الحركة تقول للعالم إن واقع اجديدا يرسم الآن بالنار خلف هذه الأسلاك.

 

ــ مئات المستوطنين يفرون جماعات في صحراء فلسطين…مشهد هوليودي يصلح لفيلم تاريخي عن سيدنا موسى وقصة “تيه” بني إسرائيل.

 

ــ جنود عرايا إلا من الملابس الداخلية…تحدث أثر الإدلال الذي قد لا يكون الجيش الإسرائيلي جربه طيلة تاريخه.

 

ــ  عناصر عسكرية “ّمشبوحة” على بطونها والأيادي مقيدة إلى الخلف..صور تثير في النفس معاني الاستسلام مع ما لها من أثر على الجنود الذين سوف يشاهدونها.

 

ــ مقتل اللواء  “نمرود”  ــ ويا لمصادفة الأسماء ــ أي أن المعركة وصلت إلى كبار الضباط منهم القتيل ومنهم الأسير، وسيكونون كنزا معلوماتيا كبيرا للمقاومة لاستخدام ما سيعصرونهم عصرا للاعتراف به كمستندات للاستثمار العملياتي وللتفاوض القادم.

 

ــ حمل الأسرى على متن آليات إسرائيلية والذهاب بهم إلى غزة كسلع تم الظفر بها..وهذه المشاهد إن لم تستنزف ما تبقى من عزيمة في صفوف مجندي إسرائيل فأنا لا أعرف شيئا آخر يمكن أن يؤدي إلى ذلك.

 

ــ التعامل مع امرأة لها أطفال: كانت عناصر المقاومة تطمئنها وتهدئ من روعها، بينما حملت سيدة أخرى مسنة إلى القطاع واستقبلها الأهالي ببعض الزغاريد وقد بدت مطمئنة إلى أنها لن تصاب بأذى، وغيرها شابة ظهرت جالسة على لحاف بيت…كلها صور مدروسة وسيكون لها محصولها وعائدها التواصلي.

 

 معادلات جديدة:

 

انتقلت المقاومة بسرعة خلال السنوات الأخيرة من مجرد عمليات متفرقة في شكل رد فعل إلى اتخاذ المبادر والفعل، وأعلن الضيف وهنية أن الرغبة والهدف المعلنان اليوم هما التحرير. ولقد ظهر بسهولة أن مساحة القطاع قد تضاعفت مرتين لو احتسبنا المدى الجغرافي الذي تم اكتساحه بأسلحة بسيطة.

وفي سجال الحرب الدائرة لن يكون عسيرا على أي متتبع حذق أن اللغة التي تم تلقينها للإسرائيليين من قبل رفاق “القسام” أن المدينة بالمدينة والموقع بالموقع والبرج بالبرج. فما أن قصف نتنياهو برجا في غزة حتى جاء الجواب سريعا: 150 صاروخا زارت أرقى أحياء تل أبيب.

وبلا شك فإن المقاومة الفلسطينية وضعت في الحسبان كيفية التعامل مع الكيان في المراحل المقبلة لهذه الحرب التي صرح جيش الاحتلال أن أيامها صعبة. ويقينا، تخفي المقاومة سيناريوهات ومفاجآت للتعامل مع فرضية “الأرض المحروقة” التي قد تقدم عليها حكومة المتطرفين والتي ترفض أن ترى الواقع وتطوراته كما هي.

 

قواعد تفاوض جديدة:

 

اعتاد العرب على التسليم بأن التفاوض حول الأسرى يساوي فيه فرد إسرائيلي مئات أو آلاف الأسرى الفلسطينيين. واليوم يوجد بين يدي المقاومة كنز ثمين جدا بالمقاييس الإسرائيلية، وضمن الأسرى ضباط كبار بالعشرات، فضلا عن المدنيين…وهات يا تفاوض واحسبي يا حسابة.

غير أني أتوقع هذه المرة أن يكون التفاوض مختلفا تماما عن سابقيه وسيكون ضغط الرأي العام الإسرائيلي شديدا على حكومة يمين التطرف والجنون. وتحت هكذا ضغط في وضع سياسي داخلي مهترئ سيضطرون للرضوخ لشروط صفقة سيفاوض فيها المقاومون على إطلاق سراح كل الأسرى وعلى مكاسب تشمل الأرض وفك الحصار الظالم على القطاع.

وفي حال انتفضت الضفة الغربية المحتلة وتحرك فلسطينيو الداخل فقد تأخذ الأمور مسارا حقيقيا نحو حل الدولتين في الحد الأدنى. لكن في حال اشتعلت جبهات أخرى للحرب كجنوب لبنان الذي قصف صبيحة اليوم مواقع بمزارع شبعا فستكون المنطقة كلها مقبلة على نتائج ليس بإمكان تل أبيب ولا واشنطن توقعها.

 

 خلاصات أولية:

 

يبدو مبكرا الحديث عن خلاصات لأن معركة غزة في بداياتها وهي مرشحة لكل شيء. غير أن بالإمكان استنتاج أمور أولية. ومن ذلك أن الرهان على إخماد المقاومة قد فشل، ومثله سقطت كل المشاريع الخيالية التي تم الترويج لها في السنين الأخيرة كصفقة القرن ومشروع أبراهام وأخواته.

كما سقط سقطة مدوية مشروع تغيير الوضع بالمسجد الأقصى مكانيا وزمانيا في أيام “عيد العورش” التي أنهاها المتدينون اليهود بهروب جماعي وهم من كانوا بالأمس يعربدون بساحات المسجد ويهينون المعتكفين شيوخا وعجائز على مرأى ومشهد من عالم لا يكترث لضعيف ويسمع فقط صوت صاحب القوة.

 إسرائيل عاجزة عن حماية نفسها، ومواطنوها يتساءلون أين جيشنا؟، والميركافا فخر صناعتها صارت لعبة بين يدي أولاد غزة..هذا الكيان لا يمكن لغيره أن يراهن عليه لا عسكريا ولا سياسيا.

الرسالة الأقوى للمقاومة، ومن خلفها حاضنتها الجبارة/الشعب الفلسطيني: نحن هنا ولا حق لأحد وليس هناك من يقدر على أن يقرر مصيرنا.

وبالمناسبة، والمناسبة شرط: أين الاقمار الصناعية..ثم أين بيغاسوس؟ ام ضاع كل شيء وسقطت الاقنعة في غزة؟

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد