من سوريا إلى بوزريوطات..حرب إعلامية بدهاء المرحوم جَدي

 أحمد الجَــلالي

تابعت باهتمام شديد ما يقع في سوريا خلال الأيام الأخيرة وكدت أقبض على بعض الخيوط لفهم ما يجري وسيجري لاحقا. ولكن بحكم أن تخصصي هو الاتصال قبل الصحافة فقد ركزت أساسا على فن تسويق الصورة الجديدة لـ”المعارضة السورية” في إطار حرب إعلامية لافتة.

ولشرح الموضوع أكاديميا وعلميا سيكون لزاما علي الإطالة في الكتابة وطرح الأدلة في شكل فيديوهات وصور لكن غرضي لم يكن يوما إعطاء الدروس.

ومهما يكن فلن تخطيء العين الحرب الإعلامية الشرسة على الجبهات كلها أكانت ذات هوى طائفي أو المحسوبة على الاحتلال، سواء نطقت بالعبرية أو العربية أو تلك التي تزعم “حيادا ومهنية”.

ومن ذخيرة الحرب الإعلامية التهويل والتقليل والتحقير والتطبيل و”التقبيل” أي تقبيل الأحذية بشكل سافر وفج. ويدخل ضمن هذا النطاق إطلاق الألقاب التي نهانا ربنا عز وجل عنها “ولا تنابزوا بالألقاب”.

والتلقيب غير الكنية، فالكنية إسم مستحب لصاحبه وهو من قد يختاره لنفسه إن لم يرثه فيما التلقيب ممجوج ويثير التأفف والغثيان أحيانا.

وعلى صعيد التحليل النفسي فالذي يطلق الألقاب إما يكون منتقما أو عاجزا عن الانتقام المادي الملموس فيكتفي بالتعويض عن عدم القدرة بالقتل المعنوي.

وقبل التلفزيون والراديو والإنترنت كان الناس في بلادي يتفننون في الحرب الإعلامية، في عمق البادية، وأفلحوا في النيل من خصومهم.

وعندما فتحت العين على هذه الدنيا اختلط علي الأمر كثيرا فلم أميز إن كان علي أن أنادي من في مثل سن جدي أو أبي بالإسم أم اللقلب.

ورغم صغر السن، ومع نفور فطري من الألقاب كنت مضطرا لتسمية أصحابها بها في غيابهم لكني كنت أجد صعوبة بالغة في الجهر بها أمامهم رغم أن جلهم أنستهم ألقابهم الظالمة أسماءهم الحقيقية من فرط استخدامها.

فمثلا كان رفاقي في كرة القدم ملقبين وكنت أصر على مناداتهم بأسمائهم الشخصية فتبدو ثقيلة على مسامعهم ويستجيبون بصعوبة.

بدل “البحراوي” كنت أفضل رشيد وعوضا عن “كلوط” كنت أفضل بنعيسى، و عبد النبي قدمتها على “الطحشي” وجاءت عندي إدريس قبل “ماصة” وابن عيسى خير عندي من “تشي غي” وهكذا.

لقد كانت بيئة “لغوية” عجيبة: من الأجداد تشربت الدارجة المغربية الموروثة عن أجدادهم في القرن 17، وهي مزيج من الفصحى الضاربة في القدم والحسانية المتحورة والأمازيغية الكامنة في الميزان الصرفي والتركيب البنيوي. كل هذا أردكته عبر محاضرات “اللسانيات” في الجامعة وبعدها.

غير أن “جحيم الألقاب” ظل يضايقني ويحاصرني ويضحكني أحيانا. والأدهى أني كنت أصر بيني وبين نفسي على البحث عن إجابات شافية للأسئلة التالية:

ــ لماذا يلقبون الأشخاص؟

ــ مادام اللقب يعجبهم فلماذا سموهم أصلا وجعلوا لهم تاريخ ميلاد وحالة مدنية؟

ــ ثم ما معنى هذه الألقاب ومن أطلقها عليهم؟

ــ وأخيرا، من لقب هذه وتلك..أريده حيا أو ميتا لأسأله عن السبب والمعنى؟

والحق أقول لم أظفر ولا بجواب للأسئلة أعلاه.

تعايشت أذني مع الألقاب التالية، وهي مجرد نماذج نظرا لطول القائمة:

ــ احبل…كنت أقنع نفسي أنهم كانو يقصدون “اطبل”

ــ لياماها…ما علاقة حسن بموطور “ياماها”..الله أعلم

ــ “غاغا”…ما الصلة بين الهاشمي رحمه الله وحروف الغاء؟

ــ كوعرايط…ما هذا الإسم ومن اخترعه؟

ــ القلوز…من أطلقها على أسرة تفرعت وصارت بالمئات

ــ لحرور…ما علاقة الإنسان بالعطرية؟

ــ فكنونة…هل أصلها تركي؟

ــ فكررت..بالكاف المنقطة… عجزت عن تخمين أصلها.

ــ شباكرضا….دائما غيرتها إلى”شبع رضا.

ــ جنيخر…كانت تحيلني دائما على السائل المخاطي المتجمد في الأنوف.

صارعت كل هذا القاموس العجيب الغريب وبعد مراحل النضج الكثيرة حللت وبحثت وعرفت الدوافع النفسية والاجتماعية التي سطرت تاريخا للبسطاء يستحق التأمل على الأقل.

ولأنه لم يكن يفصلني عن علال التازي الجميل غير نهر سبو مرورا بالنقطة الكيلومترية “زريوطات” فقد أثارتني دائما تلك التسمية على يافطة منتصبة عدة عقود.

ولهذا الإسم الشائع لدى السائقين من كل أنحاء المغرب “دورة ديال زريوطات” علاقة بي وبجدي. سأشرح.

هي ضيعة كان يقطنها أحد المحتلين الفرنسيين “بازيل”، وقد تزوج من مغربية لاحقا وأنجب منها وأمضى حياته في تلك الضيعة الجميلة التي كانت موصولة بالهاتف في منتصف القرن الماضي وتتوفر لدى صاحبها الفرنسي كل وسائل الإنتاج الفلاحي العصري وسبل الراحة والسعادة مقارنة مع أبناء وطني في تلك المنطقة.

وروي لي أنه كان يمر بفترات يكون فيها سيء المزاج. وحين تأتيه تلك الحالة يطوف بضيعته المتاخمة للطريق الوطنية التي تربط بين القنيطرة وطنجة، ويمضي وقتا طويلا جيئة وذهابا وفي يده عصا صغيرة من نوع “زرواطة” تارة في يمناه وتاره في يسراه وأحيانا يسلكها بين مرفقيه من وراء ظهره فتبدو كنصف صليب على ظهره.

وجدي رحمه الله، الذي كان يكن للاحتلال كل الحقد والازدراء والرغبة في التصفية لو استطاع، كان يشاهد ذلك الفرنسي على تلك الحال فاختصر وجوده في العلامة التي تميزه فلقبه “ازريويطة” التي تحولت لاحقا إلى “بوزريوطات” واستقرت رسميا على “زريوطات”.

رحمك الله يا جدي إذ قزمت الاحتلال الفرنسي إلى ما يستحق بصيغة التصغير والتحقير( مجرد ازريويطة وليست زرواطة مليحة)، ومن حفيدك هذا الفاتحة على روحك مع تقديري لفنك في حرب إعلامية بمقاييس في ذلك الزمن القاسي.

من ازريويطة لنعد إلى سوريا التي لا يستحق شعبها الجميل العبقري الفنان كل هذا الجحيم الذي يخنقه منذ عقود. وفي هذا الموضوع لا أريد الإطالة ولا الرجم بالغيب، غير أن لي قناعات حول حرب لا تشبها سابقاتها:

ــ إذا سقطت دمشق لزاما ستسقط موسكو والعكس بالعكس صحيح.

ــ لب أهداف الحملة ــ ولا أحابي نظام الأسد ــ قطع الإمداد عن المقاومة في لبنان وفلسطين وتصفية القضية إلى الأبد.إنها حرب كسر العظام فعلا.

ــ الحرب في سوريا مواجهة روسية أمريكية بأدوات إقليمية ستحرق بمجرد تحقيق الأهداف.

ــ لا سلام بلا سوريا ولا حرب من دون مصر مقولة يكاد يتجاوزها الزمن بفعل المتغيرات الجيوستراتيجية غير أن لها أهميتها رغم انتفاء شروط السلام بسوريا وغياب حوافز الحرب لتحقيق السلم من قبل الجيش المصري.

في النهاية، حمى الله كل الشعوب، ومنها أهل فلسطين ولبنان وسوريا..حيث لي أعزاء هناك جمعني بهم خبز وملح وذكريات حلوة في واقع عربي مر.

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد