مؤتمر النقابة:تحصين الصحافة ضد المُفسدين وحماية المهنيين من المُلتهمين

أحمد الجـَلالي
بلغت نقابتنا، النقابة الوطنية للصحافة المغربية، ستين سنة. وعلى مدى هذه العقود من عمرها عقدت النقابة ثمانية مؤتمرات وتتحضر اليوم لعقد مؤتمرها الوطني رقم 9 من 15 الى 17 دجنبر الجاري.
صحيح أن عمر الناس في أمتنا، كما هو متعارف عليه في موروثنا الديني، بين الستين والسبعين، ومع ذلك ندعو لهذا الإطار المهني بعمر مديد وعمل رشيد ورأي سديد.
أختار المؤتمر شعارا جيدا اقتنص اللحظة المهنية الفارقة التي تمر منها حرفة الصحافة في المغرب فكان «تحصين المهنة وحماية المهنيين» ..هكذا حرفيا.
وستعرف الجلسة الافتتاحية تكريم أحد رواد ومؤسسي النقابة، ويتعلق الأمر بالقيادي التاريخي في حزب الاتحاد الاشتراكي، محمد اليازغي.
لنبدأ بالشكليات ثم نمر لبعض العمق:
لما قرأت الشعار وأعجبني تمنيت لو تم التوسع فيه قليلا فأصبح على الشكل التالي:” تحصين الصحافة من الانتهازيين وحماية المهنيين من المُلتهمين”. وعندما توقفت عند المحتفى به اليازغي، لم أعترض ولكن ما المانع أن يكون تكريما جماعيا له ولغيره من الرموز، فلا ندري إن كانت الأقدار ستمهل من إلى مؤتمر قادم.
والشخصيات، نساء ورجالا، ممن يستحقون التكريم لا حصر لهم ممن يعانون اليوم في صمت أو نسيهم زملاؤهم أو يوجدون على فراش المرض من دون تغطية صحية حتى.
أما “المُلتهمون” فهم أصناف وأشكال وليسوا فقط أصحاب المؤسسات ممن التهموا حقوق الأجراء، بل أيضا “بعض الزملاء” الذي التهموا المهنة بعد أن صاروا سلطة مسلطة على رقاب بعضهم واستضعفوا فريقا من المهنيين وجعلوا من هذه الصحافة “مهنة تأكل أبناءها”، وحقوق الملكية الفكرية لهذا التعبير مكفولة أخلاقيا للأستاذ طلحة جبريل.
في عصر “الديجيتال” وإعلام الإنترنت يحق لنا اليوم أن نطرح الأسئلة الضرورية، والتي لا أدري إن كان هناك من سيطرحها في بوزنيقة من المؤتمرين، وهي على سبيل تقريب الصورة:
ــــ ما تعريف نقابة للصحافة في منتصف العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين؟
ـــــ ما معنى أن تكون في مغرب 2023 وزارة تسمى وزارة الاتصال؟
ــــــ من يفصل المقال بين الصحافة كفن وإتقان والبطاقة المهنية من اتصال؟
ــــــ ما هو البعد “الدستوري” للجنة مؤقتة نالت نصف ولاية مجلس منتخب؟
ـــــ ما معنى التنظيم الذاتي للمهنة في ضوء تجربة الولاية الأولى للمجلس الوطني للصحافة؟
قد أجازف بهذا الموقف الاستشرافي فأكتب: إما أن يكون المؤتمر التاسع هذا انطلاقة جديدة وولادة ثانية للنقابة والمهنة أو سيكون آخر مؤتمر قبل دفن الحاضر والماضي معا بقبر واحد وقراءة الفاتحة على المستقبل.
لماذا هذا الحكم القاسي المتشائل؟
لدي أسبابي المستندة إلى قراءة متأنية ،ومن كثب، لممارس لهذه المهنة على مدى قرابة ربع قرن من هذا العمر الكادح، ومن بين مبرراتي التالي:
ـــــ لأن ما تبقى من المهنة اليوم في المغرب أوهن من الهشاشة، فأجور الصحافيين منذ الوباء معول على خزينة الدولة لتحصيلها.
ـــــ لأن النموذج الاقتصادي للمقاولة الإعلامية مائع ومطاط وهلامي وضبابي، ويعول في بقائها على قيد النشر ــ في الغالب ـــ على الريع أو “الانتساب” أو العلاقات الخاصة.
ــــ لأن دعم الدولة، رغم بعده الفلسفي النبيل، لم يعد له معنى اليوم في زمن صارت فيه صفحة فيسبوكية لوحدها تحظي بمتابعة ما لا تحلم به الصحف الورقية المغربية مجتمعة. هي نفسها الصحف التي توزع بضعة آلاف نسخ يوميا وتلتهم ملايير السنتيمات سنويا. مقابل ماذا يا ترى؟
ــــــ لأن النمط الكلاسيكي للطباعة والنشر والتوزيع مات والتمسك به وبالمقاربات المرتبطة به تصورا وتمويلا ودعما تجريف لميزانية الدولة وإمعان في سياسة الريع في ظرفية اقتصادية واجتماعية مأزومة.
ـــــ لأن مفهوم الانتشار والتأثير تغير ومعه معايير قياس الجودة والوصول إلى الجمهور المستهدف وأداء الرسالة من عدمه.
هذه بعض ملامح الظرفية التي ينعقد فيها مؤتمر النقابة التاسع، وهي كما تلاحظون ظرفية بات بقاء المهنة فيها مهددا، المهنة التي لا يتلقى فيها أهلها أي تكوين مستمر قد يمكنهم من مجرد مواكبة التطورات المتسارعة.
أما إن شئتم الحديث عن الظروف الاجتماعية لشريحة واسعة من المهنيين الجدد والمخضرمين والقدامى فسنكون أمام مشروع مرثية تكون مدعاة لتشفي القريب والبعيد.

لدي قناعة راسخة أن الإصلاح الممكن للمهنة يجب أن ينبع من النقابة كتعبير مدني حي عن أفكار وطموحات أبناء المهنة ممن أعطوها أعمارهم التعيسة المعذبة. وهي قناعة لها وجهها النقيض تماما: تغسيل المهنة وتكفينها يكون على يدي النقابة نفسها، في إطار إما اللامبالاة أو العجز أو الجبن عن تحمل المسؤولية التاريخية.

هذا رأيي القديم وعليهم أجدد البصمة. وهو المبدأ والغيرة نفسهما اللذان جعلاني أقرع الجرس بُعيد مؤتمر طنجة حين نشرت مقالة تحذر من أن نصبح “نقابة قوسين أو أدنى”، وبنفس الحرقة حذرت المؤتمرين بمراكش سبعة رجال من الطاعون، مثلما رفعت عقيرتي لأندد بمغبة أن يتحول التنظيم الذاتي للمهنة إلى جائحة أنانية تأتي على ما تبقى من اليابس، أما الأخضر الممكن فقد أكلته سنوات الزمن الحكومي العجاف.

ولسوء حظنا جميعا أن كثيرا من توقعاتي المؤسسة على رصد الواقع قد تحقق ووصل الطوفان والجائحة وضرب الطاعون هذه المهنة النبيلة في مقتل. واليوم بدل أن نتصارع فكريا من أجل التجويد والرقي بواقع المهنيين ونعلي من شأن الصحافة اضطررنا للفرجة المرة على هذا الصراع الكئيب على الكراسي الصغيرة وشروط “التبطيق” والاتساع الأسطوري لكروش قوم يريدون الانقضاض على كعكة الدعم العمومي رافعين شعارا مقدسا لديهم: الدعم لنا لا لغيرنا، وفي سبيل ذلك فهم مستعدون لكل أنواع الحروب والخشونة والافتراس البدائي.
لماذا دور النقابة حاسم ومخرجات مؤتمرها هي ما ستقرر إعادة ترشيد خط السير أو المضي قدما إلى المنحدر السحيق نحو الهاوية؟

لأن المجلس الحالي للصحافة والذي سارت بتناقضاته وسقطاته وفشله الركبان هو نتاج للنقابة نفسها التي قادته في تجربته الأولى، عبر مجاهد/البقالي اللذين عرقلا ولادة الولاية الثانية واستعاضا عنها بتواطؤ مع الحكومة ووزيرها في الاتصال “مهدي”، بتخريجة لجنة مؤقتة مازالت تمعن في الارتجال برغبة انتقامية تمخضت عن شروط جديدة لولوج المهنة لو قام حمورابي من قبره لاستنكرها وأضرب عن الطعام والماء.
المعنى، أنه ما لم تحدث النقابة ثورة على نفسها وعلى إرثها السلبي عبر كشط أسباب الورم فإنها ستحكم على نفسها بالفناء عبر إعادة إنتاج تخلفها وتدويره في حلقات مفرغة تفضي إلى نتائج أسوأ.

ومن عناوين هذا العبث الذي وضعت النقابة نفسها فيه أن عاش الزملاء وضعا غريبا صارت فيه حدود العلاقة بين نقابة الصحافيين ومجلس الصحافة كاريكاتورية حيث ــ مثلا ـــــ نقيب الصحافيين عبد الله البقالي هو رئيس لجنة منح البطاقة بالمجلس. فلو تضرر مثلا زميل أو زميلة من قرار لجنة البطاقة التي يرأسها عبد الله البقالي وأراد أن يتظلم للنقابة من قرارات المجلس فسيكون لزاما عليه طلب مؤازرة البقالي عبد الله.
إنها إحدى نكات هذا العصر المهني الغريب.
ومن بين أسوأ ما حصل باسم التنظيم الذاتي للمهنة ــ وهذا ما يجب على المؤتمر أن يصرخ عاليا لتصحيحه ــ أن المجلس/ابن النقابة صار بمثابة إقطاعية لها ملاك، بحيث لا تعرف من يصنع ماذا ولفائدة من أو ضد من وبناء على أية معايير؟

وثالثة الأتافي أن هذا العهد الجديد للتنظيم الذاتي للمهنة نقلنا فكريا ومهنيا من سؤال: ما مقوماتط لكي تكون صحافيا حقيقيا إلى سؤال سوقي مقتضاه: واش عندك شي فلوس؟

وقد زرت المجلس بضع مرات مضطرا فأدهشني ذلك الإحساس المخيم على الزوار الآتين في الغالب من مدن بعيدة: إنهم يهمسون فقط ولا يرفعون الصوت في مكان هادئ. يسيطر عليهم نوع من “رهبة السلطة”، وعندما كنت أتعمد جعل بعضهم يتحدث بصوت أعلى أو يضحك كانوا يتصرفون معي كمرتفق لا يعرفك وقاده حظه أن يجلس بجانبك في مقر ولاية أمن أو مقاطعة فيبتسم لك مجاملا ثم يتلهى عنك، وهو في الحقيقة يتفادى الحديث إليك بصوت مسموع.
ولن أنسى يوم التقيت حميد المهداوي هناك حيث زار المقر لسحب بطاقته بعد خروجه من السجن. كنا معا لوحدنا في قاعة انتظار أخذ حميد يجول بنظره فيها وعبر عن إعجابه بلمعانها فقلت له يا أخي كل هذا الصرح لا يعني شيئا بالضرورة: أين المضمون؟
سكت حميد ولم يعلق.

أعود لمؤتمر النقابة. وقبل الحديث عن المؤتمر نفسه، دعوني أوضح أمرا: أعرف عددا من الزملاء والزميلات الصادقين في نضالهم ورغبتهم في التغيير وليس لدي أدنى شك في أنهم مستعدون للنضال بما تبقى من سنين أعمارهم في سبيل قناعاتهم، ولهم أتمنى تولي القيادة المقبلة فعليا لا نظريا.

أتمنى للمؤتمر النجاح، لكن ليس بالتمني وحده تكسب الرهانات. ولكي يكون المؤتمر حقيقيا ومؤسسا لطريق جديد لا بد له من علامات في بدايته ونهايته وما بينهما، ومن هذه العلامات التي ستكون دالة على القطع مع الماضي هناك محددات:

ـــــ ألا يمر التقريران الأدبي والمالي مرورا روتينيا كسابق المؤتمرات بل يكون حولهما النقاش والرفض والشك والاتهام وطلب التوضيح..هذا هو النقاش الصحي.
ـــــــ أن يمكن المؤتمرون من مشاريع المقررات مبكرا لقراءتها وهضمها والاستعداد للانخراط المنتج في إنضاجها، لا أن توضع بين أيديهم في وقت قصير وجو مرهق يجعل الكثيرين من فرط تعبهم يريدون فقط مرورها بأسرع وقت للتخلص من عبئها.
ــــــ أن يترشح لرئاسة النقابة ثلاثة على الأقل أو يتم اللجوء لنظام الجولتين وأن يمكن كل مرشح ومرشحة من تقديم مشروعه في خمس دقائق للجمع العام.
ـــــــ ألا يتم اللجوء في انتخاب أعضاء المجلس التنفيذي إلى المجاملات أو الترضيات والكوطات أو التوازنات التنظيمية والمناطقية، فهذه الطريقة المعروفة والمجربة من قبل ثبت أنها لا تفضي سوى إلى العقم، إذ كم من عضو بمكتب تنفيذي لم يحضر لقاء واحدا طيلة ولاية بعينها وبدا في النهاية أن همه كان فقط “أن يكون عضوا في القيادة”.
ـــــ شفط الدهون الحزبية من قيادة النقابة، أو تفعيل بعض الريجيم حيالها على الأقل، والكل يعرف المقصود. من حق الناس أن يتحزبوا وليس من حق هؤلاء الناس أن يجعلوا من الحزبية شرطا وفيتو.

أتمنى ألا ينعقد المؤتمر فقط لأن موعده القانوني قد تأخر نصف سنة تقريبا. فالهدف ليس الانضباط للقانون الداخلي فحسب بل غاية الغايات أن تصبح بعض الأخلاق هي قانوننا المؤطر لسلوكنا ولأكثر طموحاتنا الشخصية جنوحا.
فبعد أن أقفلت عامها الستين، ألا تستحق هذه النقابة قيادة شابة متحررة من إسار الوصاية لتلتحق أولا بهذا الحاضر المتسارع بكل تعقيداته، قبل الانطلاق نحو مستقبل بات منفتحا على مجهول مخيف؟
فيا أيها المؤتمرون في بوزنيقة كونوا أوفياء للمهنة وللحقيقة، واكتبوا التاريخ ولا تضيعوا ساعة أو دقيقة.
وحرر بالمقر الرئيس لـ”الشوارع العظمى” ووقع عليه وتحمل مسؤوليته العبد الضعيف أحمد الجلالي، المعروف بزاوية “رصي راسك” وفيسبوكيا يشتهر بأحمد المنصور مكتوبة بالخط الأعجمي.
الله ناصري، وإياه أدعو: اللهم لا تجعل الصحافة كل همي ولا مبلغ علمي. آمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد