يُعدّ ملف الصحراء المغربية واحدًا من أكثر النزاعات تعقيدًا في العالم العربي والإفريقي. فمنذ منتصف السبعينيات، تتباين الرؤى بين المغرب الذي يطرح مبادرة الحكم الذاتي تحت سيادته، وبين جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر التي تطالب باستفتاء لتقرير المصير.
لكن مع مرور السنوات، تغيّر المشهد الدولي، وأصبح الحكم الذاتي المغربي يُنظر إليه اليوم بوصفه الحل الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق، سواء داخل أروقة الأمم المتحدة أو في المواقف الجديدة لعدد من القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، فرنسا، الصين وروسيا.
الحكم الذاتي بمنظور الأمم المتحدة:
مفهوم الحكم الذاتي
في القانون الدولي، يُعد الحكم الذاتي أحد أشكال تقرير المصير الداخلي، وهو حق الشعوب في إدارة شؤونها المحلية ضمن إطار الدولة الأم دون الانفصال عنها.
هذا النموذج مطبّق في عدد من المناطق حول العالم، مثل جزر الآزور في البرتغال أو غرينلاند ضمن مملكة الدنمارك.
الحكم الذاتي الحقيقي
من منظور الأمم المتحدة، الحكم الذاتي ليس مجرد شعار سياسي، بل نظام متكامل يقوم على:
- هيئات محلية منتخبة تدير الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
- احترام سيادة الدولة في الدفاع والعلاقات الخارجية والعملة الوطنية.
- ضمان الحقوق الأساسية للسكان المحليين عبر قوانين دستورية واضحة.
- التنمية العادلة وتقاسم الثروات بما يحفظ استقرار الإقليم.
في هذا الإطار، تعتبر الأمم المتحدة أن خطة الحكم الذاتي المغربية لعام 2007 تجسّد هذا المفهوم الواقعي لتقرير المصير الداخلي، وهو ما يجعلها اليوم محور النقاش داخل مجلس الأمن.
تطبيق الحكم الذاتي في الصحراء المغربية:
معالم المقترح المغربي
يقترح المغرب إنشاء منطقة حكم ذاتي في الصحراء، تديرها مؤسسات محلية منتخبة، مع احتفاظ المملكة بالسيادة الكاملة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والرموز الوطنية.
سيتمتع سكان الإقليم ببرلمان محلي، وحكومة جهوية مسؤولة عن التعليم، الثقافة، الصحة، والتخطيط الاقتصادي.
الأهداف الرئيسية للخطة
- تمكين سكان الصحراء من تسيير شؤونهم بأنفسهم في إطار السيادة المغربية.
- تحقيق مصالحة وطنية شاملة تنهي النزاع الذي استمر لعقود.
- تحريك عجلة التنمية في الجنوب المغربي عبر مشاريع اقتصادية كبرى.
التحديات الواقعية
رغم الدعم الدولي المتزايد، تواجه الخطة عدة تحديات أبرزها:
- رفض جبهة البوليساريو التي لا تزال تطالب بخيار الاستقلال.
- الدور الجزائري الذي يظل مؤثرًا في مسار المفاوضات.
- الحاجة إلى بناء الثقة بين الأطراف وضمان تمثيل كل مكونات المجتمع الصحراوي في أي عملية سياسية قادمة.
اللجنة الرابعة والفصل السادس :
اللجنة الرابعة للأمم المتحدة
تعرف باسم “اللجنة الخاصة بالسياسة وإنهاء الاستعمار”، وهي الجهة التي تتابع ملفات الأقاليم غير المستقلة.
في كل دورة، تعتمد اللجنة قرارات تؤكد ضرورة التوصل إلى حل سياسي توافقي لقضية الصحراء، وتشدد على أهمية الحوار بين الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة.
مجلس الأمن والفصل السادس
يندرج نزاع الصحراء ضمن الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يدعو إلى حل النزاعات بالطرق السلمية مثل المفاوضات والوساطة.
وبخلاف الفصل السابع الذي يسمح باستخدام القوة، فإن الفصل السادس يركّز على التوافق والتفاهم، وهو ما ينسجم مع توجه المغرب القائم على الحوار بدل التصعيد.
طريقة التصويت في القرارات
يتطلب أي قرار من مجلس الأمن موافقة 9 من أصل 15 عضوًا، بشرط ألا يستخدم أي من الأعضاء الدائمين حق النقض (الفيتو).
في السنوات الأخيرة، نجح المغرب في الحفاظ على توازن دبلوماسي جعله يحظى بدعم مستمر داخل المجلس، مقابل تراجع مواقف بعض الدول المعارضة.
تحولات مواقف روسيا والصين:
روسيا: من دعم الجزائر إلى الحياد الإيجابي
لطالما كانت روسيا تُظهر ميولًا نحو الموقف الجزائري في قضية الصحراء، بحكم العلاقات التاريخية والعسكرية بين البلدين.
لكن في السنوات الأخيرة، اتجهت موسكو إلى موقف أكثر توازنًا، إذ امتنعت عن التصويت ضد قرارات تؤكد جدية المقترح المغربي، وأبدت استعدادًا لدعم حلّ سياسي واقعي.
هذا التحول يعود إلى عوامل اقتصادية وجيوسياسية، أبرزها انفتاح المغرب على روسيا في مجالات الطاقة والفلاحة، ورغبة موسكو في تعزيز نفوذها المتوسطي بعيدًا عن الاصطفافات التقليدية.
الصين: التوازن بين الجزائر والمغرب
أما الصين، فظلت لسنوات تتبنى موقف الحياد انطلاقًا من سياستها الخارجية التي ترفض التدخل في النزاعات الإقليمية.
غير أن السنوات الأخيرة شهدت تحولًا تدريجيًا في خطاب بكين، إذ بدأت تصف مبادرة الحكم الذاتي بأنها “حلّ واقعي وجاد”، ما يعكس رغبتها في حماية مصالحها الاقتصادية المتنامية بالمغرب وفي إفريقيا عامة.
الرباط بدورها عززت علاقاتها مع بكين عبر مشاريع البنية التحتية والاستثمارات في “مبادرة الحزام والطريق”، مما جعل الموقف الصيني أكثر قربًا من الطرح المغربي.
سيناريوهات المستقبل :
السيناريو الأول: نجاح الحكم الذاتي
في حال استمرار الدعم الدولي ومرونة الأطراف، قد يتحول الحكم الذاتي إلى حل دائم يضمن استقرار المنطقة ويجعل الصحراء نموذجًا للتنمية المتقدمة في إفريقيا.
هذا السيناريو هو الأقرب حاليًا، خاصة مع تزايد عدد الدول التي تفتتح قنصلياتها في مدن العيون والداخلة، في إشارة واضحة للاعتراف بسيادة المغرب على الإقليم.
السيناريو الثاني: استمرار الجمود
في حال تمسك البوليساريو بموقفها وغياب إرادة سياسية جزائرية لدعم التفاوض، قد يظل الملف مجمدًا سنوات أخرى، مع بقاء الوضع الميداني على حاله.
لكن هذا الجمود يكلّف المنطقة اقتصاديًا وسياسيًا، ويعرقل مشاريع التعاون المغاربي.
السيناريو الثالث: عودة التوتر
رغم أنه احتمال ضعيف، فإن فشل المساعي الأممية أو تدخل أطراف إقليمية قد يعيد التوتر إلى المنطقة، خصوصًا إذا استُغل الملف في صراعات سياسية بين القوى الكبرى.
لكن المجتمع الدولي يدرك أن الاستقرار في شمال إفريقيا مرهون بإيجاد حل نهائي وسلمي، لذلك يسعى الجميع لتجنب هذا السيناريو.
خاتمة
بات واضحًا اليوم أن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يمثل الخيار الأكثر واقعية لإنهاء نزاع الصحراء.
فهو يجمع بين احترام سيادة الدول ومبدأ تقرير المصير الداخلي، ويضمن في الوقت نفسه تنمية مستدامة واستقرارًا طويل الأمد.
ومع التحولات الدولية المتسارعة، يبدو أن العالم يسير بالفعل نحو الاعتراف بأن مبادرة المغرب هي الحلّ الوحيد القادر على طي صفحة هذا النزاع نهائيًا.
